كابوسٌ غريبٌ أيقظ الأميرة الفينيقية الحسناء "أوروبا" فتقرر عدم العودة إلى النوم، والذهاب إلى الشاطئ برفقة وصيفاتها، يراها "زيوس" كبير آلهة الأولمب ويعقد العزم على اختطافها، ينزل من عليائه متقمصًا هيئة ثور جميل وديع، لا تلبث أوروبا أن تُعجب به وتمتطي ظهره، فيعدو مسرعًا باتجاه الغرب، ويدخل في عباب البحر.
بهذه الأسطورة الإغريقية تبدأ أوروبا تاريخها، حيث الجذور الآسيوية والوطن الشرقي، وتبدأ معها أيضًا سلسلة الاختطافات "الأوروبية" للشرق، وإن اختلفت صُورها.
وسننيخ رواحلنا مع نموذجٍ من هذه الاختطافات، رغم كونه اختطافًا "ناعمًا" وخفيًا وهو الأدب، وبشكل أخص الرواية.
استقرّ في أذهان الكثير أن الرواية لا تعدو أن تكون متعةً تُزجى بها أوقات الفراغ، أو فواصل ترويحية لقراءة الكتب، وأحيانًا للحصول على قدرٍ من المعلومات بشكل لطيف، وربما يحصل نوع جدال إن أُسند إلى الرواية غير ذلك.
بيد أن هذه الرواية ساهمت في تكوين امبراطوريات، واسترقاق أمم، وتأليه أقوام، بل ومحو شعوب من على وجه البسيطة.
فـ (الأدب لا يمكن أن يُبتر عن التاريخ والمجتمع، إن الاستقلال الذاتي المزعوم للأعمال الأدبية والفنية يقتضي نوعًا من الفصل، يفرض محدوديةً مُضجرةً تأبى الأعمال الأدبية نفسها أن تقوم بفرضه).(1)
استعانت السلطات الكولونيالية بذخيرة من الروايات وأدب الرحلات لتسوّغ احتلالها لأراض الآخرين، ولتتماهى شعوبها مع ذلك وتقوم بدورها في الاحتلال.
يشدّد إدوارد سعيد: (لستُ أسعى إلى القول بأن الرواية - أو الثقافة بالمعنى الواسع - قد سبّبت الامبريالية، بل إن الرواية من حيث هي مصنّع ثقافي من مصنّعات المجتمع الطبقوسطي، والامبريالية غير قابليْن للخطور بالبال منفصلتيْن إحداهما عن الأخرى).(2)
ويقول هومي بابا: ("الخطاب" الكولونيالي هو جهاز يدير معرفة الاختلافات العرقية/ الثقافية/ التاريخية وإنكارها. وتتمثّل وظيفته الاستراتيجية المسيطرة في خلق فضاءٍ لـ "شعوب خاضعة" عبر إنتاج معارف تُمارس من خلالها المراقبة، ويُثار شكلٌ معقّد من اللذة/ التنغيص. وهو يسعى إلى إقرار استراتيجياته عن طريق إنتاج معارف بالمستعمِر والمستعمَر قائمة على الصور النمطية، لكنها تُقوّم وتُثمّن على نحوٍ متضاد ومتناقض. أما غاية "الخطاب" الكولونيالي فهي أن يؤوّل المستعمرَين بوصفهم شعوبًا من أنماط منحطة بسببٍ من أصلهم العرقي، وذلك لكي يُبرّر "فتح" هذه الشعوب، ولكي يقيم بين ظهرانيها أنظمة الإدارة والتوجيه. "فالخطاب" الكولونيالي يعمل عبر رسمه حدود أمة خاضعة على تعديل مجالات النشاط المتنوعة لهذه الأمة وتوجيهها والسيطرة عليها).(3)
مهّد النتاج الأدبي الأرضية للاستعمار، فيما ساهم لاحقًا في تثبيتها وتكثيفها، وإنّ نظرةً في الميراث الروائي السابق والمزامن لتكوّن امبراطوريات ما وراء البحار الأوروبية، البريطانية والفرنسية على وجه الخصوص، لتكشف عن حجم الخيال الذي كان وقودًا للهولوكوست الامبريالي.
كانت البلدان خارج القارة الأوروبية توصف بالغرائبية، ويُدمغ أهلها بالتخلف والوثنية، وتُصور أراضيهم يوتوبيا حقيقية، لا يستحقها قاطنوها، وتنتظر "المتحضّر" القادم من مغرب الشمس، ليستغل مواردها، ويأخذ بيد أهلها نحو الحضارة، ففي رواية "أرض العميان" لهربرت جورج ويلز، يُحدث البطل نفسه مستنكرًا استيحاش أهل البلدة منه: (إنهم لا يُدركون أنهم أهانوا ملكهم وسيدهم الذي بعثته السماء لهم نعمةً ورحمة لأهديهم سواء السبيل، ولأعيدهم إلى صوابهم).(4)
ولئن احتاج الاستعمار إلى الرواية، فقد احتاجت هي إليه أيضًا، فثمّة "عقد منفعة" بين الطرفين، (فالرواية بتوغلّها في عوالم نائية، استجابت لرغبات المجتمع الذي أفرز التطلّعات الاستعمارية، وفي الوقت نفسه أدرجت نفسها في سياق ثقافة ذلك المجتمع، واكتسبت مكانة خاصة؛ لكونها نوعًا جديدًا يحتاج إلى شرعية أدبية. أما الاستعمار، فوجد فيها وسيلة ثمثيلية مناسبة لبيان فلسفة التفاضل بشكل رمزيّ وإيحائيّ، لكشف الاختلاف بين الغربيين وسواهم من الشعوب).(5)
أنّى خطّت قدما "المستكشف" الأوروبي، فسيلتقي بأقوامٍ يعيشون حياةً غريبة، تجمّد بهم الزمن، وسيأخذ الأوروبي "النبيل" على عاتقه مهمة تحضيرهم وتطويرهم.
في رواية جوزيف كونراد "قلب الظلام" يتحدّث بطل الرواية "مارلو":
(إن احتلال الأرض والذي يعني غالبًا سلبها من أولئك الذين يختلفون عنا في البَشَرة، أو الذين يملكون أنوفًا أكثر انبساطًا من أنوفنا، ولن يكون لائقًا عندما تتمعّن فيه، ولعل الاسترسال في التأمل الباطني لذلك ما هو إلا مجرد خاطر عابر، مجرد فكرة كامنة وراء ذلك، يكون ذلك متعلقًا بادّعاء عاطفي وحسب، بل إن ذلك يحتاج إلى تفكير حقيقي، وباعتقاد فعلي ضمن هذا التفكير، وحينئذٍ يكون شيئًا ذا قيمة، يمكن التعامل معه، وتنحني أمامه احترامًا، وتكون مستعدًا للتضحية من أجله).(6)
وفي أول سطر من رواية ليزلي بولز هارتلي "الوسيط":
(الماضي بلدٌ أجنبي، إنهم يفعلون الأشياء على نحو مختلفٍ هناك).(7)
(ارتبط الاهتمام بالأشياء الغريبة والمرتبطة بالثقافات البعيدة ولا سيّما الشرقية، ارتباطًا وثيقًا بالأدب القَصصي، وسرديات الرحلات البحرية، وقصص المغامرات في الأراضي "المجهولة"، حيث زوّدت الأوروبيين بـ "وعيٍ قبل موضوعاتي للعالم"(8)) *إضافة الأقواس* ومكنّتهم من تعريف أنفسهم باعتبارهم حَملة مشاعل التحضير، وهيّأتهم لتقسيم العالم إلى أوروبا والبقية "The west and the rest" وهذه البقيّة هي مجرد امتداد طبيعي لأوروبا.
(إن الأدب، بالطبع، ليس سوى واحد من الوسائل التي تم بها بناء الامبراطورية على نحو استطرادي. فقد شدّد توماس رتشارد على "الأرشيف الإمبراطوري" الذي يصفه بأنه تخيّل للمعرفة المكدسة في خدمة الامبراطورية، التي قامت بوظيفتها في تخيل الأرض التابعة للإمبراطورية كتمثيل، وتحقيقها كبناء اجتماعي، مقدمة بذلك وسيلة للاستعمار من خلال الاستفادة غير المباشرة من المعلومات.
وشدّد بول كارتر على البناء الخرائطي للمستعمرات، واصفًا كيف أن شبكة من الأسماء تُعرّف منطقةً جغرافية بوصفها مكانًا تكون الرحلة إليه ممكنة، ويكون الاستيطان فيه وشيكًا، بعبارة أخرى، كيف أن المستكشفين والمسّاحين قد أوجدوا بلدًا يمكن للقراء أن يتخيلوه ومن ثمَّ أن يسكنوه؛ نظرًا لأن الفضاء يتم تحويله عن طريق فعل التسمية إلى مكان).(9)
فيما يؤكدّ إدوارد سعيد أن (مصادرة التاريخ، وأرخنة الماضي، وسردنة المجتمع، وهي جميعًا تمنح الرواية قوتها، تشمل مراكمة الفضاء الاجتماعي وممايزته، وهو فضاء يراد له أن يُستخدم لأغراض اجتماعية، وهذه السّمة أكثر وضوحًا بكثير في رواية أواخر القرن التاسع عشر الاستعمارية علنًا).(10)
لقد شكّلت الرواية "سِفر رؤيا" للاستعمار، ولتثبيت الصورة الذهنية النمطية للشرق.
(ومع مرور الزمن، تتراكم الروايات وتتحوّل إلى ما يُطلق عليه هاري لفين تسمية مفيدة هي "مؤسسة أدبية"، لكنها لا تفقد أبدًا مقامها كأحداث، أو كثافتها الخاصة كجزء من مشروع مستمر يتميّزه ويقبله القراء والكتّاب الآخرون بوصفه كذلك، لكن الروايات رغم كل حضورها الاجتماعي لا يمكن تقليصها إلى تيّار علمجتماعي، ولا يمكن أن تُوفى حقها جماليًا، وثقافيًا، وسياسيًا، إذا عوملت كأشكال فرعية للطبقات أو العقائديات أو المصالح).(11)
(عُدّت رواية "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو - نُشرت عام ١٧١٩م - المدونة السردية المبكرة التي ربطت بين المغامرة الفردية لرجل أبيض، وتعميم الأخلاقيات الاستعمارية الرامية إلى مدّ نفوذها دينيًا ودنيويًا لامتلاكها ولإدارتها والاستفادة منها.
وعبّرت رمزيًا عن طبيعة التوسعات الاستعمارية بصورة تتراوح بين المباشرة والتضمين، فالبطل طوّر خلال عزلته في جزيرة منقطعة عن العالم، قِيمًا بروتستانتية حملها معه من إنجلترا، كما بشّرت بدور الفرد المتحضّر في عالم بدائي سوف يظلّ منسيًا إن لم يدرج في التاريخ الذي يمثّله رجل أبيض:
"إنني ملك على كل هذه البلاد بشكل غير قابل للإلغاء، وإنني أتمتع بحق الملكية، وإذا استطعتُ نقل ملكية هذا المكان، يمكن أن أحصل عليه بالوراثة بشكل كامل كأيّ مالك مزرعة في إنجلترا".
كشف مسار حياة كروزو في تلك الأصقاع النائية مدة تزيد على ثمانية وعشرين عامًا، أنه كان مسكونًا بفكرة المستوطن وليس المواطن، وهي الفكرة الملازمة للأخلاقيات الاستعمارية.
وفي مناجاته الذاتية كان يتحدّث عن "بيتي وسياجي وكوخي وببغائي وأشجاري".
ولا تكتسب فكرة السيطرة على أرض الآخرين معنًى فاعلًا بذاتها، ولذا ينبغي القول بأنها مهجورة ولا بدّ من إعمارها، وهذا يلزم ظهور شخصية أصليّة غير مؤّهلة تكون موضوعًا لأفكار المستعمِر، فيتحقق الهدف الذي يتوخاه بمدّ نفوذه على الأرض والبشر، فيعيد تأهليهما وصوغهما على وفق رؤيته الاستعمارية؛ ولهذا اصطُنعت شخصية الملوّن "فرايدي" ليقع نوع من التكافؤ بين الهدف والموضوع، وتكون الخطوة الأولى أن يخلع الوافد الأبيض اسمًا على الملوّن الأصلي، فيصبح معرفة بعد أن كان نكرة، وتكون أول كلمة يُلقنها له كيف يقول له بالإنجليزية "سيدي" فتتأسس باللغة علاقة تابع بمتبوع، علاقة عبد بسيد، ثم يزوّده بشذرات من التعاليم الدينية، ليهدي روحه الوثنية).(12)
تُطلّ صورة الشرق المترف، المتخم باللذائذ والأطباق الخيالية، النهم الذي لا يشبع في رواية "سلامبو"، فقد شحذ جوستاف فلوبير مخيلته، وأجهدها في التخّيل: (وما لبثت أن اختفت الموائد تحت أكوام من اللحوم المتنوعة: فهنا أبقار وحشية بقرونها، وطواويس بريشها، وهناك أكباشٌ بتمامها، مطهوّة بالنبيذ الحلو، وأفخاذ نياق، وجواميس، وقنافذ متبّلة، وجنادب مقلية، ونموس محلّاة بالسكر، وكل هذه الأطعمة طافحة بالكمأة، وأنواع التوابل المُشهية، وكان الشحم يُقدم في جِفان من الخشب النفيس مغموسًا بالزعفران، وتلت ذلك جمعيه أكداس من الثمار المتنوعة الأجناس والأصناف، نثرت على أقراص من العسل).(13)
(وكذلك في رواية وليام بيكفورد "الواثق | Vathek": "جلس الخليفة ليأكل، ولكن من الثلاثمائة طبق التي كانت توضع أمامه يوميًا، لم يستطع أن يتذوق أكثر من اثنين وثلاثين طبقًا".
كما قام الروائي بإسقاط مشاعره الجنسية على الخليفة الشاب، فعلاقة الروائي غير الشرعية تتطابق مع لويزا، زوجة ابن عمه، مصورة من خلال علاقة الواثق مع نور النهار).(14)
وفي رواية تشارلوت برونتي "جين آير" (نجد برثا ماسون زوجة روشستر الأولى الهندية والتجسيد شديد البشاعة للتمردية والجنسانية الأنثويتين المنفلتتين، تشوش الحد الفاصل بين الإنسان والحيوان). (15)
(أما وليم شكسبير سيد المسرح الإنجليزي، فيُظهر عددًا كبيرًا من المفاهيم الإنجليزية المتداولة عن الشرق في مسرحياته، ففي تاجر البندقية وعُطيل، يُقدم شكسبير شخصيتين شرقيتين، ففي تاجر البندقية يعكس أمير المغرب صورة الجشع والمجون، حيث إنه يختار الصندوق المذهّب ويخسر بورشيا.
وفي "عُطيل" يرتكب المغربي جريمة بربرية وهي قتل زوجته، وبذلك يكون شكسبير قد اتبع التميز نفسه المنتشر آنذاك من خلال إبراز صورة الشرقي بأفظع أشكال الوحشية والخيانة).(16)
كما أن زواج "عُطيل" و"ديزدمونة" محكوم عليه بالفشل رغم اتفاقهما، وذلك بسبب انتهاكهما للنظام العرقي، وكلمات إياغو الملتهبة إلى والد "ديزدمونة" تامة الكشف عن ذلك.
وفي "رحلات جوليفر" لجوناثان سويفت يقوم جوليفر برحلات خيالية لبلدان متخيلة غريبة، فـ "ليليبوت" بلاد أقزام، و "برودينغناغ" أرض عمالقة، و" لابوتا" جزيرة طائرة، ويقابل في بلاد "الهوينهومس" أحصنة تتحدث كالبشر.
وفي رواية إدوارد مورغان فوستر "رحلة إلى الهند" يقوم اللقاء الاستعماري على إيروتيكية "مثلية"، أكثر مما يقوم على المجاز التقليدي للنهب والامتلاك. وفي هذا مخالفة للمجاز الاستشراقي/ الاستعماري التقليدي الذي يتصور الأرض المستعمرَة أنثى، والمستعمِر ذكرًا، إذ تتجلى "المثلية" المبنية على الاختلاف العرقي.
(ويقيم فلوبير في جميع رواياته رابطة بين الشرق وبين التلهّي بالخيالات الجنسية، فالسيدة "إما بوفاري" في رواية "مدام بوفاري" وفريدريك مورو في رواية "التربية العاطفية" يذوبان شوقًا إلى ما لا يتوافر لهما في حياتهما البرجوازية أو الحافلة بالمنغصات، وأما ما يدركان أنهما يريدانه فهو يعتاد أحلام يقظتهما بيسر وسهولة، مغَلفًا داخل صور نمطية شرقية: الحريم، والأميرات، والأمراء، والعبيد، والنقاب، والراقصين والراقصات، وألوان "الشربات" وزيوت التعطير وما إلى ذلك. وذخيرة هذه الصور مألوفة.
يواصل سعيد:
كان الشرق هو المكان الذي يطلب فيه المرء خبرة جنسية لا تتوافر في أوروبا. ولا نكاد نرى كاتبًا أوروبيًا كتب عن الشرق أو سافر إليه في الفترة التي تلت عام ١٨٠٠م يعفى نفسه من هذا الطلب، وما فلوبير ونيرفال وريتشارد بيرتون وإدوارد لين إلا أشهر الأسماء في هذا الصدد. وتخطر على بالنا من أبناء القرن العشرين أسماء أندريه جيد، وجوزيف كونراد، وسومرست موم، وعشرات آخرين). (17)
ورغم صغر حجم رواية "كنوز الملك سليمان" لهنري رايدر هاجرد، إلا أنها مترعة بالصور النمطية عن الشرق:
- الشرق المخبوء بالكنوز التي تنتظر الرجل الأبيض ليمتلكها: "فراحت تغريني بكنوز أجدادها المخبأة، وبجبل من الذهب والمجوهرات".
- يسكنه أقوامٌ همجيون وثنيون لا يستحقون كنوزه: "وسط قوم من أنصاف البرابرة" ، "اهربا، انجُوَا بنفسيكما من هؤلاء المتوحشين".
- يعتقدون بالخرافات: "يؤمنون إيمانًا قاطعًا بأن تدمير هذا المعبود هو أمرُ بالرحيل".
- لهم أسماء الحيوانات: "وأخبرنا القط قائد قافلتنا".
- احتقار المرأة الشرقية وتراثها وأنها غير قابلة للتمدن أو عصيّة عليه وإن تزوجت من أوروبي: "على الرغم من احتفاظها بطابعها الشرقي".
- التفوق العرقي للإنجليز: "توفي عمي في جنوب أفريقيا، واليوم علمتُ أنه كان قد تزوج من امرأة أدنى منه مرتبة".
- خنوع الشرقيين وجبنهم وخضوعهم ورضاهم بالعيش الدنيء: "ثم إن رجالها قد فقدوا الكثير من شجاعتهم وبأسهم، وأنهم قد استكانوا للعيش في أرضهم الخصبة حتى يوافيهم الأجل وتطوى صحائفهم".
- خضوعهم باللفظ للانجليز يكون دليلًا على نبلهم: "فخاطبته في لهفة تشف عن توجهها النبيل: ماذا حدث يا سيدي؟"
- شجاعة الإنجليز في المقابل لا يمكن أن يتطرق إليها الشك: "جبناء! كيف تجرؤ على هذا القول أيها القذر؟ انظر إلى هذا الجاويش، إنه خادمنا وأقلنا شأنًا، ولكن ما بإصبعه الصغير من شجاعة يفوق ما تحمله منها قلوب قبيلتك كلها".
- الكرامة صفةٌ ملازمة للإنجليزي، وإن كلفته حياته: "وبدا لحظة وكأنما سيطلق ساقيه للرياح فرارًا، إلا أن كرامته - على الأرجح - قد منعته من ذلك، فقد توقف بغتة، وعقد ساعديه أمام صدره، بعد أن أرخى قبعته على وجهه، ووقف ينتظر هجوم الأسود في بسالة".
- لا يمكن للشرقيين بناء حضارة أو مدنية: "وعلى مقربة منها ما يشبه مدنيات أو قرى صغيرة، من المستحيل أن يشيدها أو يقطنها الهمج أو البرابرة".
- الشرقيون خبثاء ماكرون لا يمكن الوثوق بهم إن لم يكونوا خانعين: "لستُ أثق عادة في القط الذي يبرز مخالبه هكذا، فذلك الرجل يبدو لي ماكرًا خبيثًا يكره البِيض ويتمنى لو نهلك قبل عودتنا من المور".
- الإنجليزي ذو قلب أبيض لا يعرف الحقد ولا الضغينة على أعدائه: "وصحبه هيجز ليدلل على صفاء نيته وطيب طويته تجاهه".
- الشرق أرض سابقة للغرب، ولذا لا ضير عليهم في استرجاعها: "فوقع بصري على أعلام الأباتي الخضراء وعليها تلك الكتابات العبرانية، تتوسطها صورة عرش سليمان".
- بقايا أسلافهم الذين لا زالوا على هذه الأرض هم أهل الجمال والشهامة والحضارة: "لقد رأى أمامه حوريةً من حوريات الجنة، رأى أمامه حفيدة سليمان" ، "هؤلاء الذين أنقذوني من الأَسر هم أبناء قبيلة أباتي التي تعيش في مدينة المور، وقد نالوا نصيبًا موفورًا من المدنية".
- يقتلون ويبيدون دفاعًا عن النفس فقط: "ويؤسفنا أن اضطررنا لقتل عددٍ من رجاله؛ دفاعًا عن أنفسنا".
- تعدد الزوجات: "ويعدك بأن يضعكِ على رأس زوجاته".
- جهلهم بالطب والعلوم، عكس الإنجليز البارعين: "أما طبيبها فقد راح يتبارى معي في وصف أنواع من الدواء والعلاج، لو تناول منها الكابتن جرعة واحدة لقضى نحبه على الفور، لولا أن رحتُ أستبدل بها أنا أدوية أخرى منطقية".
- شهوانية النساء الشرقيات وإعجابهن بالأوروبيين: "ولم تقوَ الملكة على كتمان سعادتها وسرورها بشفاء الكابتن، وراحت توليه المزيد من العطف والحنان، حتى أنه لم يكد يغادر فراشه سليمًا معافى حتى راح يختلي بها كثيرًا، ويتبادل معها الأحاديث الهامسة".
- الشرق والثراء الأسطوري: "جلست على عرش من ذهب، ينتهي ذراعاه برأسي أسدين، وهي ترتدي ثوبًا من خيوط الفضة اللامعة، وتُخفي وجهها بقناع مُوشى بنجوم فضية، وقد أحيطت قمة رأسها بدائرة من الذهب، تتوسطها ياقوتة حمراء ساطعة".
- في وصف يذكرنا بمشاهد العنف والوحشية في "موت سردنبال"، يُصوَّر الشرق الدموي:
"بدت لنا كومة من العظام البشرية فوق العرش الحجري، يعلوها تاج من الذهب، وأمام العرش صولجان وخواتم وحلي من الذهب والمجوهرات، وحوله عدد ضخم من العظام والجماجم البشرية، أسفل كل منها الحلي التي كان يتزين بها أصحابها في الدنيا، وإلى جوارها أوان من الذهب، تكتظ بالحلي والقلادات والأحجار الثمينة، وأكوام من نقود فضية وذهبية قدم عهدها، وبطل تداولها، ولما رأتنا مدهوشين مشدوهين قالت: الجالس على العرش هو الملك، وحوله ضباطه وحراسه ونساؤه، وقد ذُبحوا إلى جوار جثته، ليسهروا على رعايته في الحياة الأخرى، وهذه حليهم ومجوهراتهم".
- احتقار ثقافة الآخر واستنكارها بما أنها خالفت معيار المركز: "أيُّ خير في أمة يعاقب مجرموها بالجندية بدلًا من السجن".
وفي نهاية الرواية، تشهد "نيرون الشرق" حريق مملكتها وشعبها، فتتركهم لقدرهم وتلتحق بالإنجليز (18) لتصلصل كلمات سبيفاك: رجال بِيض يُنقذون نساء سمراوات من رجال سُمر.
ختامًا،، ما سبق ليس دعوة لقراءة الروايات والاكتفاء بها، بل دعوة للتبصّر وإدراك أهميتها في تشكيل الوعي المجتمعي، وقراءتها بعين الناقد، وتحليلها وفق المعطيات التاريخية والمعاصرة، فحين نقرأ الروايات - كما قال إدوارد سعيد – (بتيقظ، تتشكل لدينا صورة أشدّ تمييزًا ورهافة بكثير من الرؤية "الكونية" والامبريالية إلى حدّ الجرأة).(19)
_________
المراجع:
(1) الثقافة والامبريالية، إدوارد سعيد، ص ٨٥
(2) المرجع السابق، ص 139
(3) موقع الثقافة، هومي بابا، ص ١٤١-١٤٢
(4) أرض العميان، هربرت جورج ويلز، ص 162
(5) التخيّل التاريخي، عبد الله إبراهيم، ص ٢٦٠
(6) قلب الظلام،جوزيف كونراد، ص ١٢-١٣
(7) GO – BETWEEN. P 15 "pdf", L. P. HARTLEY وينظر: الاستشراق جنسيا، إرفن جميل شك، ص137
(8) الاستشراق جنسيا، إرفن جميل شك،ص89-90
(9) المرجع السابق، ص99
(10) الثقافة والامبريالية، إدوارد سعيد، ص 146
(11) المرجع السابق، ص 142
(12) التخيّل التاريخي، مرجع سابق، ص ٢٦١-٢٦4
(13) سلامبو، جوستاف فلوبير، ص 26
(14) الاستشراق، ضياء الدين سردار، ص 86
(15) الاستشراق جنسيا، مرجع سابق، ص 218
(16) تطور صورة الشرق في الأدب الإنجليزي، ناجي عويجان، ص 33
(17) الاستشراق، إدوارد سعيد، ص ٣٠٤- ٣٠٥
(18) كنوز الملك سليمان، هنري رايدر هاجرد.
(19) الثقافة والامبريالية، مرجع سابق، ص ١٤٤
---
فاطمة محمد | العَنقاء